أمضيت الأسبوعين الأخيرين أطالع كتاب ستيف جوبز للمؤلف “والتر إيزاكسون“، لم أستخدم من منتجات آبل سوى الآيباد 2، الذي اقتنيته منذ أكثر من سنة، وتحول مع الوقت إلى رفيقي وجهازي المصاحب لي في كل مكان أذهب إليه، في السابق لم أكن أحب آبل كثيراً وإن كنت مهتما بالآي ماك، فهو النصيحة الأولى لمصممي الجرافيك مثلي، ولم ترق لي تجربة استخدامه الأولى منذ عدة أشهر حيث شعرت بأن شيئاً ما غير مريح في النظام، مع تلك الفأرة البيضاء الثقيلة المزعجة، والتي قمت باستبدالها لاحقاً، ومؤخراً بعدما شاهدت النسخة الجديدة من الماك بوك برو، مع نسخة Mountain Lion، الذي يمكن إدماج الويندوز بسهولة معه والتنقل بينهما في سلاسة لم أر مثلها، ومع الخدمة السحابية للشركة “آي كلاود” التي أذهلتني طريقة عملها وأنا أشاهد التطبيق الحي لها على أجهزة (آي فون، آيباد، ماك بوك برو)، أعدت التفكير ملياً بشأن قناعاتي حول الشركة.

أولاً الكتاب نفسه مكتوباً بأسلوب فذ وعبقري وأدبي راق، وترجمة مكتبة جرير كانت في المستوى أشكرهم على جهدهم. لكن المشكلة بالنسبة لي كانت في صورة ستيف جوبز المسوقة عربياً، ما كنت أقرؤه عادة كان إما يتعلق بالصراعات التقنية بين آبل ومايكروسوفت وسماسونج وآدوبي “وأنا لا أناصر شركة ضد أخرى، بل أناصر من يقدم لي المنتج الأمثل”، أو يتعلق بقصص التحفيز والنجاح بوصف جوبز كأحد كبار الناجحين عالمياً، وقد أخذت من هذه النقطة الأخيرة انطاعبي وتصوري لستيف جوبز، كرجل ناجح رائع عبقري وأصله سوري عربي. وتوفي وهو في قمة نجاحه، ولا يوجد هكذا مثال للاحتذاء به.. إنه الشخص المثالي.

مع بداية مطالعتي للكتاب كنت أتوقف عند الصفحات الأولى لأتأكد من أنني لا أحلم أو أن ما أقرؤه غير موجود؟ فمع كل صفحة أطالعها يخالف جوبز كل التصورات والانطباعات لدي ويكسر كل الكلام الذي قرأته عنه وأحياناً أشعر بصدمات فكرية، متعلقة بشخص غريب الأطوار عبقري حد الجنون، سيء الأخلاق ومؤذ حد السخط.

وأنا تحت هذا التأثير مما قرأته من صفحات وقتها كتبت فوراً على الفيسبوك تعليقا يجسد حالتي:

مما يتجاوزه العرب/المسلمون بشأن ستيف جوبز وشخصيته حين يمثلونه بالرجل الكامل في النجاح: أنه يعترف صراحة أنه ما كان ليصل إلى ما وصل إليه لولا حبوب الهلوسة والمخدرات التي قدمت له الرؤيا لما يريد أن يكونه مستقبلاً.. // هناك كلام كبير وكثير.. ستيف شخص متطرف لا يؤمن بشيء، والتجارب التي خاضها في بداياته كلها تطرف ويقول أنها هي ما ساعده ليحقق ما حققه.. في الحقيقة أستغرب أني قرات مقالات عربية كثيرة تتحدث عن الرجل ولم يتطرق واحد من الكتاب للحديث عن هذه النقطة.. جذور ستيف جوبز الفكرية.

شعرت حينها أنه قد تم الكذب علي، وأن الكثير من المعلومات المنشورة عربياً تغافلت عن إطلاعنا كقراء هذه الجانب من الرجل، أو أنها فعلاً لا تدري عنه شيئاً وتكتب ما هو موجود فقط. فقد كان يجسد مثال الرجل المتغطرس المجنون السيء الأخلاق الذي يهين الآخرين ولا يهتم بأي شخص ولا يهمه في الوجود سوى نفسه، بل إنه لا يجد حرجاً في تحطيم منافسيه بكل السبل أياً كانت، كما أنه مؤمن بأن التجارب المتطرفة في حياة الأفراد مهمة جدة، وكان يسأل بعض من يحضرون للتوظيف لديه إن كانوا قد تناولوا المهلوسات من قبل أم لا، بل كان يحب التعامل مع من لهم تجارب متطرفة مماثلة.

ومع الوقت بدأت أرى الصورة الشاملة للرجل وكتبت تعليقاً آخر:

حتى أنهي هذا الكلام حول ستيف جوبز، وإن لم أنه بعد قراءة الكتاب فلازلت في الصفحة 116 من 600 صفحة.. إلا أن كل ما قرأته بشأن ستيف جوبز عربياً قد تهدم وانهار فجأة، وأقوم حالياً بإعادة بناء رؤيتي وتصوري الشخصي لرجل غير العالم وطريقة تفكيره.. وأن المسألة ليست مسألة رجل أعمال ناجح كما صورت لنا “عربياً” بعقلية تنتهي بعبارة “توتة توتة خلصت الحدوتة” وهو الجزء الذي لا يخرجون منه أبداً إلى الجانب المظلم الذي أثر في الجانب الناجح بشكل كبير جداً.

كان الجزء المظلم من شخصية ستيف جوبز مؤثر بشكل كبير في الجزء المضيء والناجح، بل لقد كان يسيره، لم تكن مبادئه ولا حسن خلقه وطيبته والتي هي تقريباً شيء غير موجود في قاموسه فلديه من القسوة والبرود العاطفي تجاه الناس ما يكفي، بل لأنه شغوف بالمنتجات التي يرى أنه يصممها لنفسه قبل الآخرين.. وتيمة الظلام/النور وحب السيطرة تلك كانت معادلة محركة له لينتج كل هذا الإبداع وليخرج هذه العبقرية في التصميم والانتاج والإدارة والتسويق.

في الجزء المتعلق بطرده من آبل، تكتشف أنه فعلاً استحق الطرد بسبب عناده وما تسبب به للشركة من تدهور ومخاطرة ومن توتر بين الموظفين ومجلس الإدارة، لكنه وعى الدرس بعدها واعترف، والجزء الأهم أنه لم يتم طرده، بل بقي ضمن الشركة وإن لم يكن يتمتع بنفس الصلاحيات التي كانت لديه في السابق.

وحتى طريقة عودته إلى الشركة كانت ماكرة وخادعة بشكل كبير، لقد أعد خطة تجاهل فيها الأخلاق تماماً، المهم أن يعود إلى الشركة بأي ثمن، وقد فعل ذلك وأزاح كل شخص يقف عثرة أمام تقدم الشركة ومن بينهم صديقه القديم ستيف ووزنياك الذي بدونه لما بدأت شركة آبل نفسها، ولا يقوم بمثل هذه الأمور إلا شخص جريء لا ضمير له في طرد أي شخص وموظف ببرود ودون أي تعاطف، وإن كان يفسر ذلك بأنه يختار الأفضل فقط، لكن هذا لا يعني على الإطلاق إذلال الناس وإهانتهم.. إنها النقطة التي تجعلني لا أستسيغ العمل مع من هم مثله لأنني إما إن أرحل عنهم أو أقتلهم.

المبدأ الذي فاجئني بشأن عمله هو التركيز؟، أي أن يتخلص من كل المنتجات الزائدة وعديمة فائدة منها، والتركيز على أربع أو خمس منتجات للعمل عليها، ومع توحيد جهود كل أقسام الشركة من إدارة إلى تصميم إلى تسويق.. ألخ، لتتم المراحل كلها بتسلسل وتنسيق دقيقين، ويربط هذا كل بالسيطرة التامة التي يقوم بها في كل جزء من المنتج، فهو لا يسمح للمستخدم على الإطلاق أن يتصرف في الجهاز من تلقاء نفسه، بل عليه استخدامه دون السؤال عما بداخله.. وهي نقطة الخلاف بينه وبين بيل جيتس.

وهذه السيطرة هي مشكلته الحقيقية، فهو يحب السيطرة على الجميع وفي كل تفاصيل حياتهم ومنتجاتهم وأن مسؤوليته تتعلق فقط في تقديم المنتج المثالي الذي يصلح للمستخدم وتحمل النتائج، كما أنه يرى نفسه غير ملزم بالقانون والقواعد والأخلاق، في حين أن الآخرون ملزمون معه بها.. وهذا تناقض صارخ في الشخصية.

من بين المعلومات التي فاجئتني أيضا في الكتاب أن فكرة جهاز الآيباد اللوحي ظهرت قبل فكرة هاتف الآيفون.. في الحقيقة لولا الآيباد لما ظهر الآيفون.. وهي معلومة جديدة حيث أوقف جوبز العمل على الآيباد ورأى أن دخول سوق الهواتف الذكية أهم من الحواسيب اللوحية، ومعلومة أخرى فاجئتني وهي أن ستيف دخل في معركة كبيرة مع جمهور واسع من مستخدمي منتجات آبل، كونه رفض بشكل قاطع تواجد أي تطبيق إباحي على أي من منتجات آبل.. ورأى أن ما تقدمه الشركة يهدف إلى التعليم والتطوير والأخلاق وتغيير حياة الناس إلى الأفضل، وليس الإباحية التي تضر بالاجيال القادمة! مع أن ما يقال بشأن الموضوع – حسب الصديق رضا – أن القرار أتخذ بسبب أنه يوجد فئة من صغار السن لايستطيعون اقتناء الأيفون لكنهم معتادون على الأيبود تتش المشابه له، لذلك كان من المهم كسب ثقتهم وثقة أوليائهم حتى يبقوا من مستخدمي المنصة إذا بلغوا سنا كافية لإقتناء الهاتف.

مقابل هذا كان هناك جانب “متخلف” من ستيف جوبز حين تعامل مع مرضه بشكل بدائي، فهو بشكل مباشر المتسبب الرئيسي في وفاته وتدهور صحته السريع بسبب معتقداته الروحانية وممارساته لشفاء نفسه من جهة، وبسبب عناده وتسلطه وتكبره على الآخرين من يودون مساعدته على الشفاء من جهة أخرى، لقد كانت إمكانية شفاءه متاحة فعلاً منذ بداية تشخيص المرض، لكنه ببدائيته في التعامل مع الأمر قضى على كل الفرص الممكنة.

حتى في الجانب العائلي فقد كان سيئاً فيه للغاية، وإن كان يحاول استدراك الأمر.

الصورة الأشمل التي طالعتها في الكتاب حول ستيف جوبز، أعطتني حكمة كبيرة مستوحاة من هذا الرجل الناجح/السيء الخلق الذي فعلاً ازداد اعجابي به مع كل صفحة جديدة في الكتاب على كثرة عيوبه التي لم أقرأ يوما عنها، واتضحت معه أن تلك القولبة التي يقدمها العرب للناجحين قولبة زائفة، فلا وجود للمثاليات في النجاح، وأن الرجل الناجح “مهنياً” ليس بالضرورة شخصاً مثالياً وقدوة حسنة لمن حوله.. لقد كنت أتصور أنه لكي تكون نجاحاً عليك أن تتحلى بكذا وكذا من الصفات، كنت أتصور أنه لكي تدير مشروعا أو تنجح شركة عليك أن تقوم بمعادلة معقدة تتطلب منك الكثير من التعلم ومن التصرف مع الموظفين، لكن جوبز كسر كل هذا في ذهني.

إنه كتاب مهم لي شخصياً، فكمية الإلهام الواقعي البعيد عن القولبة والكلام العربي الغبي الذي مللت منه، يدفعك لأن تتوقف بعد عشر صفحات على الأكثر لتلتقط أنفاسك.. إنه من الكتب القليلة جداً التي أظنها أثرت في حقاً بعد كتاب الخيميائي لباولو كويهلو والبجعة السوداء لنسيم طالب وذاكرة الجسد لمستغانمي.

المقال منقول بتصرف من مدونة: عصام حمود بعد ان سمح لنا بذلك، وهو يعبر عن وجهة نظره التي قد نختلف معها في بعض الاشياء، لكن في النهاية هو مقال رائع يستحق النقاش والتحليل

مقالات ذات صلة